دخلت حرب اليمن عامها الثالث دون حسم لصالح أحد طرفي الصراع. استمرار المواجهات طوال الـ25 شهراً الماضية على أكثر من 22 جبهة مفتوحة أنهك الطرفين بحسب معطيات الأرض. طول أمد الحرب أدى بطبيعة الحال إلى تشعب ملفاتها، وخلق العديد من الأزمات شمالاً وجنوباً، وأفرز مراكز قوى وشخصيات جديدة ساهمت إلى حد كبير في رسم مشهد الحرب الحالي الذي تقول كثير من تجلياتها إنها باقية وتتمدّد. ولأن الحرب - أي حرب - في أي بقعة من الأرض بؤرة جذب وبيئة حاضنة لطفيليات ومنتفعين وتجار ومرتزقة يتداعون إليها زرافات ووحداناً ولكل منهم مآربه وأهدافه، وبفعل وجود هؤلاء، سرعان ما تتحوّل تلك الحروب والصراعات إلى مورد دخل للبعض وفرصة انتقام لآخرين وساحة لتصفية حسابات مع خصوم يناصرون هذا الطرف أو ذاك. الجماعات الأيديولوجية ذات البعد الإستراتيجي تعتبر - هي الأخرى - الحرب بيئة جيوسياسية مناسبة، تحضرها بقضّها وقضيضها لتشكّل مع بقية الأطراف "ملحمة متشعّبة"، سرعان ما تتجاذبها دول وتحالفات، فرق وفصائل، أحزاب وجماعات، وهذا ما يطلق عليه اصطلاحاً "التدويل".
إستنزاف
إن تدويل أي أزمة أو حرب لا يعني إلا شيئاً واحداً هو استنزاف أطرافها الرئيسة تحديداً، عبر ابتزازها سياسياً ومالياً. وأغرب ما نجحت فيه الحروب المتناسلة الآن في المنطقة العربية جميعها تحييدها للقضية الفلسطينية من سلم أولوية التفكير العربي شعبياً ونخبوياً أيضاً، وهو ما بدا ظاهراً من خلال التناول الإعلامي العربي بمختلف توجهاته وانتماءاته للقضية الفلسطينية مقارنة بما كان عليه الحال قبلها.
وأغرب من ذلك أيضاً التقاء مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وتنظيم "القاعدة"، واعتبارهما ساحات الحروب المفتوحة، اليوم، في أكثر من دولة عربية بينها اليمن فرصة لا تعوض للمواجهة، كلٌّ بطريقته. فتنظيم "القاعدة" وتفرعات التنظيمات الجهادية الأخرى بارتباطاتها يرون في التدخل الأمريكي المباشر في تلك الدول استدراجاً وفخّاً انتظروا تحقّقه سنوات لمنازلة الجنود الأمريكان وجهاً لوجه، فيما تعدّ الولايات المتحدة تلك البؤر الملتهبة ضوءاً جالباً لـ"الفراشات الجهادية" من أصقاع الأرض، حيث يمكن تصفيتها هناك وإبادتها، بعيداً عن المساءلة أولاً، ولصعوبة جمع هذه الأعداد الكبيرة من المؤمنين بـ"الجهاد" في سلّة واحدة وفي مكان واحد.
صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية ذكرت أن عدد المقاتلين الأجانب الذين سافروا إلى العراق وسوريا منذ نشوب القتال في عام 2011 يقدّر بأكثر من 27 ألفاً، في حين تُقدّر نسبة الذين عادوا إلى أوطانهم بين 20 و30%. وتشير مجموعة سوفان - وهي منظمة بحثية مقرها في نيويورك - إلى "أن ما بين 27 ألفاً و31 ألف شخص قد سافروا إلى سوريا والعراق للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات المتطرفة الأخرى في المنطقة". وأفادت المنظمة بأن المقاتلين الأجانب الذين ينضمون إلى هذه الجماعات يأتون مما لا يقل عن 86 دولة، والدول العشر التي تتصدر قائمة المقاتلين الأجانب في العراق وسوريا تشمل تونس (6500) والسعودية (2500) وروسيا (2400) والأردن (2250) وتركيا (2100) وفرنسا (1700) والمغرب (1350) ولبنان (تسعمئة) ومصر (ثمانمئة) وألمانيا (760) واليمن ( 700)، وهذا يعد أكبر حشد من المقاتلين الإسلاميين الأجانب في التاريخ.
كما عاد إلى اليمن منتصف 2016م أكثر من 200 عنصر من تنظيم "القاعدة" قادمين من سوريا والعراق. وكان قيادي رفيع في تنظيم "قاعدة الجهاد في جزيرة العرب" (مقرّه اليمن) قال معلّقاً على الإنزالات الأمريكية التي استهدفت قبل أسابيع مواقع ومقار ومعسكرات للتنظيم في كل من شبوة والبيضاء وأبين ومأرب، إن التنظيم "سعى حثيثاً إلى جرّ أقدام الولايات المتحدة الأمريكية لتكون طرفاً في الصراع اليمني تحت أيّ ذريعة ومسمى، ليتسنى لمقاتليه نزالهم رجلاً لرجل".
تصفيات الأطراف المحلية
لذا، فنظرة البعض إلى الحرب الدائرة في اليمن بمعزل عمّا يجري في المنطقة قاصرة، إذ إن كل الوقائع تؤكد أن هذه الحرب هي جزء من سيناريو يهدف إلى إعادة تقسيم المنطقة وفق مشروع الشرق الأوسط الجديد. ونظرة واحدة لطرفي الصراع في اليمن تكفي للتدليل على ذلك؛ فـ"الحوثيون" وإيران وسوريا و"حزب الله"، ومن ورائهم روسيا والصين وبقية ما باتت تعرف بدول "البريكس" والتي تضم أيضاً الهند وفنزويلا، هي ذات الأطراف المشاركة في أتون الحرب المدمّرة في كل من العراق وسوريا وليبيا واليمن. فيما يضم الجانب المقابل السعودية ودول الخليج ومصر والأردن والولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول أوروبا التي تقدّم دعماً لوجستياً لدول "التحالف العربي".
لا شك في أن الحروب والنزاعات الداخلية التي تغذيها أطراف إقليمية ودولية هي حروب طويلة، وذلك لأن الأطراف الداخلية التي تلعب فيها دور "الأدوات" تفقد استقلاليتها في اتخاذ قراراتها وتصبح تالياً رهينة تحقيق مصالح متشابكة وربما متعاكسة للجهات الحليفة الداعمة. فالرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، يجمع تحت "شرعيته" التي رفعتها دول "التحالف العربي" أعلى أسنّة رمح "عاصفة الحزم"، قوى محلية متصادمة الأهداف والتوجهات ومتضادة النوايا حد التناحر؛ فقصر معاشيق يجتمع فيه إسلاميون من حزب "الإصلاح" (إخوان اليمن) وشخصيات سياسية علمانية وقيادات من الحراك الجنوبي وسلفيون أصوليون ومتشددون مناصرون لتنظيم "القاعدة"، بالإضافة إلى أعضاء في حزب "المؤتمر" وعسكريون. هذا الخليط المتنافر - على سبيل المثال - لا تربطه سوى حلقة المصلحة سواء كانت سياسية أم شخصيّة أم حزبيّة أم وطنيّة، وجميع تلك القوى والشخصيات مرتبطة بشكل علني بدول وتنظيمات متضادة الأهداف والتوجهات بعضها خارج إطار "التحالف العربي".
حالة اللاإنسجام هذه التي تجلّت بوضوح على شكل إخفاقات رافقت عمل حكومة بن دغر في إدارة المناطق "المحرّرة"، وفشلها في توفير الحد الأدنى لها من الخدمات، دليل آخر على أن الإستقرار في اليمن شمالاً وجنوباً سيكون بعيد المنال على المديين القريب والمتوسّط، ناهيك عما يؤشر إليه ذلك من تغذية تلك الإختلافات لاستمرار الحرب التي لن تعدم وقودها فوق رماد عدن وتحتها.
ومع أن القوى المتحالفة المقابلة في صنعاء تبدو ظاهرياً أكثر مسؤولية والتزاماً بشعاراتها المرفوعة، إلا أن الحقيقة تقول عكس ذلك تماماً؛ فـ"الحوثيون" الذين أذهلوا الجميع بقدرتهم على الصمود أمام آلة الحرب الجرارة لدول "التحالف العربي" لمدّة عامين كاملين، لهم مشروع بعيد تماماً عن موقف أنصار الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، والذين وجدوا أنفسهم في مواجهة حتمية مع حلفاء "الشرعية"، لم ولن يكون بمقدورهم لاعتبارات داخليّة عديدة السير بسواها، وإن كان ثمن ذلك الهزيمة التي تعني لهم بكل بساطة النهاية.