المستقلة اليمنية
لو علموا في ذلك اليوم الأسود أن الأمور ستصل إلى ما وصلت إليه اليوم، وأن جميع الخيارات والحلول ستفشل أمام إصرار الجنوبيين على استعادة دولتهم وتقرير مصيرهم.. هل كان شركاء الحرب سيفكرون بتعميد الوحدة وإغراق الجنوب بالدم.. الدم الذي سيغدو لعنة أبدية تطاردهم إلى قبورهم؟!.. عشرون عاماً مضى على تعميد الوحدة بالدم، ضاعت خلالها الوحدة وتحولت اليمن في نهاية المطاف إلى ست دول إقليمية.. عشرون عاماً انصرم على ذلك التعميد، والدماء مازالت تسيل، أما الوحدة فلم يعد لها وجود..
كان الجنوبيون على نواياهم البريئة إلى حد السذاجة القاتلة حينما اتفقوا مع نظام صنعاء في 30 نوفمبر 1989م، على إقامة وحدة اندماجية مع الشمال، لا يوجد عاقل يمكنه انكار هذه الحقيقة، وإلا ماذا يعني أن يقبلوا بالوحدة الاندماجية وهم يعلمون أن تعدادهم السكاني لا يتجاوز مليوني شخص، بينما تجاوز تعداد الشماليين حينها 16 مليون نسمة.. بل ووافقوا على أن تكون دولة الوحدة ديمقراطية.. والجميع يعرف معنى الديمقراطية وحكم الأغلبية.. ومع ذلك لم يحترم نظام صنعاء اتفاقية الوحدة وسعى خلال الفترة الانتقالية إلى عرقلة تنفيذها، وإعاقة دمج مؤسسات الدولة وإعاقة دمج الجيش.. لأن هذا النظام راهن- منذ اللحظة الأولى من التوقيع على اتفاقية الوحدة- على الحل العسكري، وعلى الدم، وعلى الميليشيات المسلحة..
ولم يفكر أبداً ببناء دولة مؤسسات وتأسيس سلطة قائمة على النظام والقانون والعدل والمساواة ولهذا سعى الى اختراق مؤسسات الدولة الجنوبية وأول هدف له كانت المؤسسة العسكرية التي بذل من أجل زعزعتها وتشتيتها واضعاف قوتها الغالي والنفيس.. كيف لا وهو يعلم أن قوة الجنوب في قواته العسكرية التي وصلت طلائعها الي مدينة ذمار إبان الحرب بين الشطرين وكان بامكانها أن تصل الي صنعاء لولاء التدخلات الاقليمية والدولية التي ضغطت لايقاف الحرب ومن أجل هذه القوة التي يدرك ثقلها صالح ونظامه فقد دفعوا أموالاً باهظة لشراء ولاء قيادات في الجيش وأمناء مخازن عسكرية وكان لهم ما أرادوا في بعض المحاور والمعسكرات حيث حقق صالح اختراقاً في المحور الغربي وكسب ولاء قائد المحور المثنى مساعد كما استطاع أن يكسب ذمم بعض الضباط في المعسكرات الذين قاموا بنهب الأسلحة الجنوبية وتسليمها لجيش صالح بمبالغ كبيرة.
وقد اعترف صالح مؤخراً في احدى جلساته بأنه لم يعلن الحرب من ميدان السبعين وانما هذا كله كلام فاضي، وان خطابه في 27 ابريل 1994 كان مجرد تحصيل حاصل .
وقال مصدر حضر الجلسة أن صالح قال الحرب حرب ولا يمكن اتخاذ قرار خوضها في لحظة انفعال أثناء خطاب.
وأشار صالح بقوله خطابي كان مجرد شماعة يعلقون عليه الأخطاء والأضرار التي سببتها الحرب أما قرار الحرب فقد اتخذناه في شهر اغسطس 1992 في أول اعتكاف قام به البيض، حيث اجتمعنا مع الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر وبعض العلماء لتدارس ما أقدم عليه البيض فإذا بهم يقولون لي .. جاء من عندهم الغلط والشعب الجنوبي بحاجة الى مساعدة لتحريره من هؤلاء العصاة، وأكد صالح أن هناك من توقع اندلاع الحرب قبل 92 بل في الأيام الأولى للتوقيع على الوحدة.
وأضاف صالح أما بشأن ضرب اللواء الثالث مدرع جنوبي في عمران فلم يكن بأمر مني وانما بترتيب من علي محسن الأحمر، وقال ان مبرر الهجوم كان جاهزاً حيث قال انهم كانوا سيعدون بياناً يقولون فيه بأن المعسكر الجنوبي كان يسعى للانقلاب، وفعلاً اشتعلت الحرب في عمران ثم في باصهيب وغيرها من المناطق، وغداة قرار الحرب، استيقظ الجنوبيون على دوي القذائف وانفجارات القصف الجوي، طالت نيران المدفعية منازلهم.. ومنذ الساعات الأولى، لم يكن هناك شيء بمنأى عن الدمار، احترقت البيوت، وتدمرت المدارس والمستشفيات والمساجد، انفجرت خزانات المياه، وتحطمت مولدات الكهرباء، وتهدمت المطاعم والمخابز.. إنها مكافأة الثقة العمياء، والنوايا الحسنة، والنتيجة المنطقية لمصير مليوني نسمة يتميزون بالمدنية والتحضر وعدم المعرفة بالأسلحة والعتاد في مواجهة نظام آل الأحمر مجهزاً بقوات وميليشيات مسلحة يفوق عددها سكان الجنوب، ومزوداً بفتاوى جهادية، وحشود قبلية ورغبة في الغنائم والفيد والاستحواذ على كل شيء 73 يوماً كانت كافية لاستكمال اجتياح الجنوب وتدمير مؤسسات دولته..
بعد الحرب تعامل نظام صنعاء مع الجنوبيين (مدنيين وعسكريين) بصفتهم مهزومين، وتعامل مع ممتلكاتهم باعتبارها غنيمة حرب، فمارس مع مليشياته المسلحة الفيد بأبشع صوره، وتم نهب الممتلكات من أراضي ومنازل وغيرها، تم تسريح ما تبقى من جيش الجنوب، وإحالة المدنيين إلى التقاعد، وتم ترسيخ السيطرة العسكرية وتحكيم القوة، وبمعنى أشمل، تم القضاء على الهوية الجنوبية، بكل ملامحها وصفاتها..
شعر الجنوبيون بالقهر، وأدركوا أنهم صاروا مجرد اتباع مستضعفين، لا حول لهم ولا قوة، وأنهم مجرد رعايا خاضعين لاحتلال قوة قاهرة، بعد أن اغتالت الحرب حلمهم ببناء دولة مدنية موحدة، صبروا كثيراً، وتحملوا ما لا يستطيع أحد من الناس تحمله، وعندما أدركوا أنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، كسروا حاجز الصمت وخرجوا إلى الشارع، ممسكين زمام المبادرة، واتخذوا من النضال السلمي وسيلة لاستعادة حقوقهم..
في 2007م، بدأ فصل جديد من القضية الجنوبية، حيث دشن الجنوبيون حراكهم السلمي، طالبوا في البداية بحقوقهم العسكرية المدنية، ثم ما لبثوا بعدما واجههم النظام بالقمع والاعتقال، أن رفعوا سقف مطالبهم إلى المطالبة بحق استعادة الدولة وفك الارتباط، وتحرير الجنوب، معتبرين أن اتفاقية الوحدة التي دأب صالح ونظامه على عرقلة تنفيذها خلال الفترة الانتقالية، انتهت فعلياً بمجرد اندلاع الحرب واجتياح الجنوب والسيطرة على مدنه بالقوة والاحتلال العسكري، واعتبروا كل ذلك انقلاباً على الوحدة، وقضاء على أسسها مبادئها وأداً لأهدافها، وفوق كل ما سبق، فلم يجد الجنوبيون أحداً يقف إلى جانبهم، أو ينصفهم، تعرضوا للاضطهاد والقمع والاعتقال زج بهم في السجون، وكلما نظموا مسيرة سلمية كانت بنادق الجيش تتجه نحوهم، فيتساقطون قتلى وجرحى، وبالرغم من كل ذلك استطاعوا الحفاظ على نضالهم السلمي.
وها هم أبناء الجنوب، بعد عشرين عاماً من الحرب الظالمة التي استباحت مدنهم وأراضيهم وكرامتهم، هاهم يحتشدون بمئات الآلاف من كل حدب وصوب، ويلتقون معاً يرددون الهتافات، ويحملون اللافتات المعبرة عن مطالبهم، تجمعوا في ساحة الحرية بمدينة المكلا في مليونية غير مسبوقة وفي يوم مشهود هو 27 إبريل 2014 الذكرى العشرين لاعلان قرار الحرب المشؤومة في صيف 94، خرجوا يذكرون القاصي والداني بمطالبهم، ويؤكدون للعالم أجمع بأن الكثير من غرماء الجنوب والجنوبيين، مازالوا يحكمون ويتحكمون بالبلاد، وأنه إذا كان صالح قد خرج عن السلطة، فإن شركاءه في الحرب الظالمة وأركان نظامه، مازالوا يسيطرون على الجيش والأمن وكل مصادر القوة والثروة، ويتقاسمون البلاد طولاً وعرضاً شمالاً وجنوباً.
يوم تاريخي عاشته حضرموت، ومنظراً مهيب للحشود المتوافدة من كل مدن ومحافظات الجنوب صوب المكلا، وأبناء المدينة رجالاً ونساء يستقبلونهم بالآلاف في مداخلها، وما يميز هذه المليونية التي دعا لها المجلس الأعلى للحراك السلمي برئاسة حسن باعوم، هو المشاركة الشاملة لكل فصائل ومكونات وهيئات الحراك الجنوبي السلمي، بلا استثناء، لقد توحد الجنوبيون أخيراً لإيصال رسالة واضحة لا غموض فيها ولا لبس..
إن اختيار حضرموت لتكون ملتقى الحشود وساحة المليونية، رسالة قوية تتلخص بنقطتين أساسيتين، الأولى مفادها أن الجنوبيين توحدوا أخيراً ولم يعد هناك فرق بين الحبيلين أو الضالع أو عدن أو حضرموت، طالما يجمعهم هدف واحد.. والنقطة الثانية هي رفض الجنوبيين لمشروع الأقلمة، وتأكيدهم على وحدة الجنوب إقليماً واحداً بكل مدنه ومحافظاته..
لو عرف نظام صنعاء أنه سيصل إلى مثل هذا اليوم بعد عشرين عاماً من hgحرب الخاسرة لحسب ألف حساب لقراره المشؤوم الذي أغرق البلاد بالدم ومزقها شر ممزق.
نقلا عن المستقله -يمنات