جاء هذا القرار الأممي، بموجب حيثياته، ووفقاً لتفسير أصحابه، لدعم الوفاق الوطني. هذا الوفاق الذي أخذ على عاتقه مهمة لملمة اليمن المنهك، وإنقاذه، وبنائه على أسس جديدة، وبآفاق حددتها وثيقة العقد الاجتماعي الممثلة في مخرجات الحوار. ومن هذا المنطلق، فإنه لم يأت ليدعم طرفاً، أو أطرافاً بعينها، على حساب آخرين؛ إلا في حالة واحدة، وهي أن تكون لذلك صلة بالموقف من الهدف الذي اتخذ من أجله القرار؛ أي أن هناك طرفاً، أو أطرافاً تعمل من أجل تحقيق هذا الهدف، وأخرى تعرقل تحقيقه؛ وهي مسألة لا يمكن الحكم عليها من مكان ثابت؛ بسبب المتغيرات والظروف المتحركة، التي لا تترك مجالاً لمثل هذا التحديد بصورة مطلقة! فقد رأينا كيف تحركت مواقف البعض في نهاية الحوار، وهي التي كانت متنافرة، لتنتج توافقات سريعة من أجل غرض واحد، وهو تمرير مشروع تعطيل قيام الدولة الاتحادية، باختلاق المواقف الحدية تجاه شكل الدولة وتصحيح المسار التاريخي.
ومن هذه الزاوية، يمكن النظر إليه على أنه لم يشكل انتصاراً لأحد، إلا لهدف التغيير، وهو بهذا يأتي متفقاً مع المطلب العام بمواجهة المعرقلين لعملية التغيير التي عبرت عنها مخرجات مؤتمر الحوار. هكذا يجب أن يُقرأ، وأي قراءة تنصرف به إلى المكان الذي من شأنه أن يؤسس لمراكز نفوذ جديدة من أي نوع كان، أو توظفه للانتقام، أو لكسر إرادة الناس في التعبير عن آرائهم، أو الاستقواء به في إحداث تغييرات سياسية أو بنيوية تخدم أطرافاً معينة لأسباب لا صلة لها بالهدف العام، فإن ذلك لن يقرر أثره المستقبلي على مسار العملية السياسية بصورة سلبية فحسب؛ ولكن سيفتح، بكل تأكيد، طريقاً لمزيد من الصراعات والفوضى، ولاستعادة القوى التقليدية المسلحة لأوراق اللعبة.
هذا يعني أن هذا الوفاق، الذي جنب اليمن مغبة السير في طريق الحروب والعنف، وقدم الكثير من الأدلة على أنه قادر على أن يجر اليمن، بقاطرة السلام والتفاهم والتعايش والاعتراف بالآخر، إلى المحطة التي تربطه بفكرة التحول إلى "وطن"، والتي يجب عليه أن يؤسس عندها قواعد بناء الدولة الاتحادية الديمقراطية العادلة... هذا الوفاق لا مفر من أن تستحضر قيمه في توجيه دفة العمل السياسي، خلال المرحلة القادمة، كشاهد على أن احتكار القرار السياسي والسلطة كان هو المنتج الفعلي لكل مشكلات هذا البلد.
والوفاق عملية شاملة لا تقتصر على البعد السياسي في صيغته المعبرة عن توافقات أفقية بين القوى السياسية والاجتماعية؛ بل هو، في ظروف اليمن، عملية رأسية ذات بعد وطني، تستهدف، بداية، مكونات البنية الوطنية للدولة، بحل القضايا الكبرى العالقة، التي لا معنى للوفاق إلا بحلها، وفي الصدارة القضية الجنوبية. وهو لا يعني، بأي حال، عدم الاختلاف؛ بل ينصرف المعنى إلى إدارة الخلاف على قاعدة ضرورة الاتفاق بالحوار، والتنازل المتبادل، وعدم السماح لأدوات الصراع بأن تكون جزءاً من الحل. والوفاق لا ينسجم مطلقاً مع مبدأ أن الآخر خطأ دائماً، وإذا كان لا بد من ذلك فليكن، إنما هو "خطأ يحتمل الصواب"، كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو الأمر الذي سيسهل الحوار، بكل تأكيد، ويبقيه في نطاق ما يمكن أن يسمى التفاهم الموصل إلى الوفاق.
إننا نعرف أن الرأي لا يمكن إثبات صحته إلا بشواهد مادية على ذلك في أرض الواقع، وليس بالجدل المجرد عن هذه الحقيقة. وفي بلد ما زالت عناصر الاستقرار فيه متحركة، والمجاهيل في معادلة استقراره ونموه هي الطاغية، فإنه لا يجب أن يجادل أحد بصحة رأيه من داخل الأيديولوجية التي تحركه، أو بالاستناد إلى قوة اجتماعية، أو عسكرية، أو مالية، أو تسلطية، من أي نوع كان. الوفاق هو البحث عن الممكن المشترك، دون التضحية بالحقيقة عندما ما تكون هناك إمكانية للوصول إليها.
وإذا كانت التجربة القصيرة الماضية، منذ ما بعد ثورة التغيير، قد أثبتت أن بعض القوى قد عادت لاستعراض القوة باتجاه احتكار القرار السياسي، من خلال الضغط على مركز السلطة لتمرير مشاريعها وآرائها بوسائل وأدوات مختلفة خربت مضامين هذه العملية التاريخية؛ فإن توظيف القرار الأممي كرصيد سياسي إضافي لهذه الأطراف سيجعل آليات القرار تعمل في الاتجاه المعاكس لأهدافه المتمثلة في حماية الوفاق الوطني.
لا يجب أن تغيب عن منفذي القرار الأممي الخارطة السياسية المصحوبة بالتجربة التاريخية، والعوامل التي تحكمت فيها؛ فهذا العنصر، في مجمله، يجب أن يظل حاضراً؛ لأن جزءاً رئيسياً من الإشكال يكمن في ما ينتجه من دوافع الصراع والتململ وعدم الثبات، ولا يمكن إلغاء تأثيره بعزله، أو استبعاده من الحسبان. المشاهد الملموسة لهذه الحقيقة تفجر يومياً ألغاماً ضخمة أمام العملية السياسية، من أعالي الشمال إلى سهول الجنوب، وهي لا يمكن أن تكون مفرغة من شحنات الظلم والمعاناة والاستبعاد، أو من تراكمات مجمل الصراعات التي شهدها البلد. إن تنفيذ القرار يجب أن يبدأ باستيعاب هذه الحلقة الحاكمة لكثير من السلوك السياسي.
والوفاق الوطني لا بد أن يبدأ من تصحيح نتائج الظلم السياسي الذي لحق بالجنوب، وكذا الظلم الاجتماعي الذي مورس على مناطق واسعة من اليمن، وألحق بفئات اجتماعية وسياسية أضراراً بالغة عجزت مرحلة ما بعد الثورة عن أن تقدم أي مؤشرات دالة على أن هذا الظلم في طريقه إلى الزوال، أو أن تبعث قدراً من الثقة عند الناس بالقدرة على إزالته. كما أنها أخفقت في تقديم خارطة أهداف مقنعة بأن النتائج التي رتبتها السنوات، التي مورست فيها مظاهر هذا الظلم، من إقصاء واستبعاد اجتماعي وملاحقات، قد بدأت تأخذ طريقها إلى الحل.
بالعكس، إن ما يجري في الواقع يشي بقدر كبير من حقيقة مؤلمة، وهي أن الظلم القديم لا تجري إزالته، وإنما يهال التراب على من لحق بهم ذلك الظلم؛ ظناً بأن ذلك يغيّب الظلم، مثلما كانت تعمل بعض قبائل العرب في الزمن القديم، عملا بما صار مثلاً: "غيّب المظلوم ينتهي الظلم"، حيث يحكى أن إعرابياً تعرض لظلم في قبيلته فأخذ يشكو ويبث ظلمه بين العرب، شعراً ونثراً، حتى ساءت سمعة قبيلته بين العرب، فما كان من أمر زعماء القبيلة إلا أن اجتمعوا ليتدبروا الأمر، وبدلا من أن يبحثوا في أمر المظلوم أخذوا يناقشون سمعة قبيلتهم التي تشوهت، فقرروا قتل المظلوم لينتهي الظلم ويستعيدوا سمعة القبيلة، بعد أن أطلق أحدهم العبارة أعلاه، والتي صارت مثالاً للغباء.
في مشهد قريب من هذا، تقوم اليوم نفس القوى، التي مارست هذا الظلم، باقتسام كل شيء، بما في ذلك الوظيفة العامة، وأدوات النفوذ بصورها المتنوعة، وغير ذلك من الفعاليات التي تقرر مستقبل البلاد. وهي، في هذا المسار الأعوج، الذي خذلت فيه أحلام الشعب والشباب بالتغيير، لا ترى أولئك الذين ظُلموا غير مخلوقات هامشية لا يستحقون منها عناء البحث في مصيرهم. ولا عجب بعد ذلك أن نراها وقد قررت أن تسير على هدى زعماء قبيلة الإعرابي وتتقمص غباءهم. ولم يكن الموقف السلبي، بل والمتأفف، من النقاط العشرين، والإحدى عشرة، الذي عبرت عنه هذه القوى بأكثر من شكل، سوى صورة للمشكلة الكامنة في ثقافة لم تستطع أن تغادر المؤثرات التي يضخها ذلك العنوان البارز، الذي قررت تلك القبيلة، بموجبه، قتل المظلوم للتخلص من الظلم، مع ضمير مغلف بفساد الطوية تجاه حقيقة دوافع حرب 1994، وما رتبته نتائجها من مقدمات لصبغ منظومة قيم الظلم بلون مريح لأصحاب هذه الضمائر.
على مدى سنوات من تكسير الروابط الوطنية، وبناء حواجز نفسية بين الجنوب والشمال، من قبل النظام الحاكم في صنعاء، ومعه بعض النخب الملحقة، التي خرجت من كهوفها لتستعيد مشاريعها القديمة بشأن الجنوب، فإنه لم يكن ببال أحد، وقد توفرت من خلال الثورة والحوار شروط تكوين بيئة مقبولة إلى حد ما لإعادة بناء جسور الثقة، أن يصل الحال بهذه القوى إلى تلك الدرجة التي ترفض فيها منح قضية الجنوب فرصة كاملة لحوار موضوعي جاد يتفق مع قيمتها كقضية اتفق الجميع على أنها المحورية في مؤتمر الحوار الوطني.
قفزت فوق كل خلافاتها وصراعاتها لتتفق فقط على "كسر هذه القضية"، في أشد صور التحالف إغراقاً في تكتيكات انتهت بتفريغ الحوار من مضامينه. ربما شعرت أنها خسرت الرهان، بعد أن جاءت نتائج الحوار، في كل محاوره، لصالح تحويل البلاد إلى "وطن"، وبناء الدولة الاتحادية بنظامها الديمقراطي المدني الحديث، فرتب العامل الموضوعي، بإرادتها أو رغماً عن إرادتها، هذا الموقف من القضية الجنوبية، بطمسها في خيمة "شكل الدولة"، ليبدو الأمر طبيعياً وكأنه يعالج مشكلة "المركزية" المزعج. بالطبع، لم يكن الأمر كذلك بالمطلق؛ فالقضية الجنوبية لم تكن مشكلتها النظام المركزي فقط، وإنما في الأساس إعادة تشكيل الدولة على أسس مختلفة عن تلك التي قامت عليها الوحدة الاندماجية التي فشلت؛ أي: تصحيح تاريخي جذري لذلك الحدث الهام الذي تم يوم 22 مايو 1990، وهو ما يعني أن عنوان "شكل الدولة" كان يرتبط ارتباطاً حاسماً بموضوع الحل العادل للقضية الجنوبية، ولم يستحدث لطمسها، كما وظف فيما بعد. وهذا هو جوهر الدولة الاتحادية، أي أنها تنشأ بين مكونات سياسية، وليس تقسيم البلد إلى أقاليم على ذلك النحو المفرغ من ضرورة حل هذه القضية.
كانت مقدمات هذه التحالفات، التي تجسدت بصورة أو بأخرى فيما يعرف بـ "مكر التاريخ"، قد برزت في أحداث شهدتها مدينة عدن، في مناسبات عديدة، خلال السنتين الماضيتين. فقد ظهر مكون السلطة الجديدة بشقيه، "الثوري الصاعد" و"القديم المنحل"، كخلطة مركبة بمذاق الدم، في مواجهة مع السخط الشعبي المتمثل في الحراك السلمي، وهو ما قلب المعادلة في أهم لحظة من لحظات التحول، وأفرغ محتواها لصالح استعادة قوى النظام القديم للمبادرة، مما أعطاها زخماً إضافياً للسير في طريق وضع العراقيل أمام مؤتمر الحوار، وإقامة حلقات من زراعة الألغام، بما في ذلك لغم الإقليم الشرقي، وتعطيل عمل لجنة القضية الجنوبية، على النحو الذي مكنهما معا، بعد ذلك، من نقل مصير الدولة الاتحادية كلها من طاولة الحوار إلى قبضة السلطة، كما ذكرنا من سابق.
هل كان تعطيل مناقشة القضية الجنوبية ممنهجاً بهدف الوصول بها، وبموضوع الدولة الاتحادية، إلى قبضة السلطة؟ أم أنه كان محسوباً بحسابات تتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد منه؛ وهو إفشال قيام الدولة الاتحادية والحوار برمته؟ ربما تباينت الخيارات! فبينما نجد أن طرفاً في المؤتمر الشعبي كان يسعى إلى الخيار المتطرف الأخير، نجد أن أطرافا في "التحالف" التكتيكي الذي ظهر فجأة، لم يكن هذا خيارها، لكنها مع خيار أن ينقل الموضوع إلى قبضة السلطة لحسمه هناك باتفاق تكون حاضرة فيه ببصمات أقوى. طرف في "الإصلاح" كان مع هذا، وأعتقد أن الخيار قد استقر على نقل القضية إلى مائدة السلطة بتأثير هذه الأطراف، أو ربما بعضها؛ لكنها سرعان ما باركته بعد أن وجدت فيه خيارا أفضل لفرض مشروعها الذي أبرمته على عجل في "برزة" من ذلك النوع الذي تدار به القضايا التي لا ترتب أي آثار إلا على طرفي "البرزة". هكذا نظر طرفا "البرزة" إلى الحوار، وإلى شكل الدولة، وقررا أن يحسماه بتلك الصورة، في تدافع غير محسوب العواقب، مما ترتب عليه، فيما بعد، بقاء الوضع في البلاد هشاً وقابلاً لانفجار في أي لحظة.
والحقيقة أن هذه القوى لم يكن لديها أي تصور مكتوب، أو غير مكتوب، يفسر هذا المشروع، وخاصة ما يتعلق بكيفية تقسيم الشمال إلى أربعة أقاليم، سوى ما ترسخ في الوعي من هواجس بشأن تمدد الحوثيين، لدرجة أن الإقليم الذي شمل صعدة ومناطق تواجدهم (ما سمي "آزال") أخذ شكلاً حلزونياً مصطنعاً اصطناعاً لا مقومات ولا هدف له، إلا مواجهة هذا التمدد! أما تقسيم الجنوب إلى إقليمين فكان واضحاً منه جر القضية الجنوبية، كحاضن حقيقي لدولة يمنية اتحادية، إلى مربع الصراع الجنوبي - الجنوبي، واستدعاء تاريخه المتشظي قبل 1967 ليعبروا، بواسطته، باليمن كله إلى المجهول، وليس إلى الدولة الاتحادية مثلما يزعمون.
إن أخطر ما في هذه العملية كلها هو إعادة تشغيل مكونات الصراعات، التي تغيرت أكثر من مرة على مدى العقود الماضية، على الموجة الموجهة على مؤتمر الحوار، وذلك لتعقيد مسار العملية السياسية.
ومما سهل المهمة هو أن بعض المجموعات، والأفراد الذين توزعوا على أطراف سياسية عديدة في غمرة الصراعات السياسية، قرروا، في لحظة خطيرة، أن يعيدوا إنتاج أنفسهم في العملية لحسابهم الخاص، وتحت عنوان حمل القضية الجنوبية؛ ووجدت هذه النزعة رعاية خاصة، بعد أن تكسر مؤتمر شعب الجنوب المشارك في الحوار لأسباب ذاتية تتعلق بقيادة المجموعة، والعلاقات الداخلية فيما بين هذه القيادة، والنزعات التي سادت بين الكثير من أعضائه في تلك اللحظات، التي كان يلجأ فيها الكثيرون إلى استدعاء صراعات الماضي لتقرر هي إلى أين يتجهون.
ولم يقتصر هذا الأمر على مكون بعينه؛ فقد ألقى الماضي بثقله على الكثير ممن ظل يتوكأ على هذا الماضي كعكاز لا يرى الطريق بدونه. ومعه بدا البعض كأسمال بالية مليئة بالرقع التي يصعب معها أن تصبح رداء للمستقبل الذي يزعمون أنهم يشاركون في صناعته.
عند هؤلاء حضر الماضي وغاب المستقبل. وعندهم صار الهدف من الحوار هو تحويل المستقبل إلى حاضن للماضي كي يواصل تفريخ أمراضه فيه. والمؤسف أن هذه الظواهر وجدت من يشجعها من داخل أروقة مؤتمر الحوار، ودفعت بها للتشويش على الصورة، بهدف تأطير المؤتمر في البرواز الذي يبقيه رهين حالة التشوش تلك.
والسؤال: لماذا؟ والجواب ببساطة هو أن هؤلاء الوكلاء قد قرروا ألا يكون هناك صوت أقوى من صوت السلطة. تجمعوا في حلقات متداخلة تتغذى من بعضها، وكل حلقة تدور حول مصالحها المتشابكة مع السلطة، وتلتقي عند نقطة واحدة، وهي ألا يذهب الحوار إلى ما هو أبعد من المسموح به.
بالمقابل، كانت الرقابة على تطبيق النظام الداخلي لمؤتمر الحوار قد ضعفت، والجهات التي كان عليها أن تقوم بهذه المهمة قد تهاونت في مهمتها، في تجليات تثير أكثر من تساؤل، أو، ربما، أن أحداً لم يعد يستمع إليها. لكن في غالب الظن أنها انخرطت في لعبة المراوغة للوصول إلى هذه النتيجة. كما أن الأجواء، التي أحاطت بالحوار من عنف وتعطيل وحروب وحملات إعلامية واغتيالات، قد سهلت مهمة هذه القوى في الوصول بالحوار إلى أن يتوقف عند المسموح به.
وفي اللحظة التي أضعف فيها مؤتمر الحوار، وفقد الكثير من روحه القديمة، وبدئ باستقطابه كأفراد وكمكونات أو أجنحة، من قبل مختلف القوى، التي وقفت خارجه مراهنة على فشله، ضمن لعبة إضعاف مؤتمر الحوار؛ كان تدخل السلطة بأدواتها قد بدأ. والسلطة هنا لا يُقصد بها شخص، أو أشخاص بعينهم؛ ولكنها كامل المنظومة، التي ظلت تستقوي بأدوات غير حوارية لتمرير آرائها ووجهات نظرها، كما حدث في حالات كثيرة.
لقد تبلورت هذه المنظومة، على اختلاف مكوناتها ونحلها السياسية ورؤاها، في أشد اللحظات حماساً وإصراراً عند المتحاورين لتجاوز الصعوبات بهدف إنجاح الحوار، وذلك كرد فعل منها للتعبير عن الخوف من أن يمضي الحوار إلى نهايته، متجاوزاً نفوذها وخططها وضغوطها، وكل ما لديها من مناورات لتطويعه. وهي بهذا العمل لا تشتكل مع تاريخها؛ فقد كانت، على الدوام، تستخدم المراوغات في تكوين التوافقات السياسية المؤقتة، ثم لا تلبث أن تعود إلى استخدام أدوات نفوذها لفرض خياراتها، وذلك في دورات متكررة من الاشتباكات والصدامات مع حاجة المجتمع إلى التصالح والاستقرار والتنمية.
والحقيقة أنه لا يمكن تفسير ذلك بمعزل عن طبيعة البنى التي تشكلت ونمت فيها مصالحها. فلقد تشكلت هذه المصالح في شكلها الجنيني حتى نمت وتعملقت داخل نسق من القيم والبنى الاجتماعية والثقافية والسيكولوجية، ظلت توفر الحماية لنفسها من داخلها، بالاعتماد على ما توفره من مخرجات فكرية وثقافية، وأنماط اقتصادية، وعلاقات اجتماعية، حتى تمكنت من إنتاج معادلها السياسي، وكذا الحقوقي، في صورتيه العرفية والقانونية، الذي انتزعته من خلال سيطرتها على أدوات التشريع، والذي ظل هو الآخر تعبيراً عن هذه المصالح، بما جسده من تكوينات وآليات تعمل لخدمة بقاء واستمرار تلك البنى وإعادة إنتاجها بشكل موسع.
ويأتي الصراع مع مؤتمر الحوار من عمق هذه الحقيقة؛ فعندما رأت هذه القوى -ممثلة في الأطراف السياسية التي تعبر عنها- أن مؤتمر الحوار يعيد صياغة المعادلات السياسية، ومنظومة القيم، والحكم الرشيد، والحقوق والحريات، والتنمية، وبناء الدولة ومؤسساتها، بما فيها الجيش والأمن والخدمة المدنية، على أسس جديدة ستؤثر، لا محالة، على قواعد اللعبة، وشروط بناء الدولة المدنية؛ سارعت، كما رأينا، إلى تخريب الحوار، وقتل قيمته في أعماق المتحاورين، والدفع بالتدخل بأدوات سلطوية تحل محل إرادتهم في بعض القضايا، التي كان يمكن حلها وفق آليات مؤتمر الحوار. والمؤسف أن ذلك كان يتم أحياناً بسبب تخلي المتحاورين عن مسؤوليتهم، أو تحت مبرر الخوف من إفشال الحوار. والحقيقة أن محاولات إفشال الحوار كانت قد تمت بأكثر من صورة؛ غير أن ذلك لا يبرر أن ننتزع من مؤتمر الحوار مسؤوليته في تصحيح مساراته، ومعالجة أخطائه، والتصدي لمحاولات إفشاله؛ وإلا فإن هذه القوى والمكونات، التي اجتمعت، ليست مؤهلة لإنجاز هذه العملية التاريخية. وبالمقابل، فقد أعطى النظام الداخلي لمؤتمر الحوار أكثر من خط رجعة، وأكثر من مخرج، لتجاوز الصعوبات التي تعترض طريقه، وعلى النحو الذي يجعل الحل قضية خاصة بالمتحاورين أنفسهم.
لا شك أن هذه الممارسات، التي جرى تأصيلها في قلب النظام الجديد، الذي يفترض أنه يطوي نظام "صالح"، على تعبير القرار الأممي، قد هدمت جزءاً من شروط نقد أخطاء ذلك النظام القديم، الذي تسبب في كل هذه الآلام، واستلزم كل هذا الجهد من التضحيات والعمل السياسي والحوار لبناء النظام البديل، الذي يليق بكل هذا الجهد؛ فكيف سيتم التعامل معها ومع نتائجها؟ بل كيف سيُنظر إلى من يرفضها باعتبارها غير عادلة وتشكل أرضية لتمردات سياسية واجتماعية مشروعة؟
إن مواصلة فرض استقطاب الحالة السياسية والاجتماعية بنفس الأدوات، التي ظلت تفرز الناس بين موالين وخصوم، لتتقرر بذلك أهليتهم لشغل الوظائف القيادية والترقي، وحتى التوظيف، بعيداً عن معايير المواطنة والكفاءة والحقوق والمساواة، لا يشكل مجرد تماهٍ مع نظام جرى لفظه فحسب، ولكنه، في حقيقة الأمر، تثبيت لقيم ذلك النظام داخل بيئة يفترض أنها قد تخلصت، بواسطة الثورة وبالحوار، من كافة العوامل التي تبقيها فريسة لها.
في مثل هذه الظروف، ما الذي سيعنيه معاقبة "المعرقلين"، في الوقت الذي تجري فيه على الأرض إعادة إنتاج نفس البيئة التي تواصل احتضان تلك القيم البالية، ومدها بعناصر القوة اللازمة لرفض عملية التغيير؟! لن يعني بالطبع أكثر من أن صمت المجتمع الدولي على هذه الحقيقة إنما يحوله، في نظر الناس، إلى انتقائي، يفقد معه الزخم الشعبي الذي لا يمكن أن يستغني عنه في تنفيذ قراراته. إذا نفض الشعب يده من القرار الأممي، أو أخذ يعارضه، فإن الشخص، أو الأشخاص الذين سيطبق عليهم كمعرقلين سيتحولون، بدون أدنى شك، في نظره إلى أبطال. ولكي لا تخسر هذه القرارات مصداقيتها، فلا يجب أن تقع في مثل هذه الانتقائية، التي لا بد أن تقوم بعض الأطراف السياسية بتوظيفها لصالحها.
وأخيراً، لا يجب أن نتجاهل أن التناقض الذي حكم مسار العملية يكمن في حقيقة أن للحوار أخلاقه وقيمه، وله شروطه، وأن للسلطة أخلاقها وقيمها الموروثة، ولها شروطها أيضاً، وأن هذه الأخلاق والقيم والشروط تتصادم، كتعبير طبيعي عن قوة الانطلاق إلى الأمام بفعل الأولى، أي الحوار، وعن المراوحة في نفس المكان، بفعل استمرار مقاومة وتأثير الثانية أي السلطة.
من سيحمل مخرجات الحوار إذا استمرت عملية بناء هياكل السلطة في الاعتماد على نفس النخب المُرحلة، والمعاد إنتاجها من النظام القديم، وبالصورة التي تتم بها التعيينات وإعادة التعيينات في المراكز القيادية، بصورة مسيئة لعملية التغيير، والتي يصبح الحديث معها عن طي صفحة ذلك النظام ضربا من الوهم وربما المغالطة؟
- كتاب جديد للدكتور ياسين سعيد نعمان،