وجوه مرهقة عانت من وجع الحروب والدمار واليأس الكثير؛ عانت من آلام الفقد الكثير؛ تجولتُ كثيرا في شوارع العاصمة اخذتُ أتأمل اختلاف المباني والشوارع اخذتُ امشي في الطرقات لأرى الناس منهم كبير السن الذي تظهر على سيماء وجهه تجاعيد الزمن المر الذي عاشوه والحروب التي مرت عليهم لتختلس من حياتهم كل ماهو جميل ولكنهم بالرغم من ذلك مبتسمون؛ اخذتُ أنظر للاطفال وابتسامة الامل على وجهوهم لأتسائل كيف سيكون مستقبلهم.
وبعد رحلة بحث عمل بلا فائدة ؛ جلستُ في احدى شوارع العاصمة اتامل المارة جلس امامي رجل قد بلغ من العمر اشده؛ كان قد ترك الزمن على وجهه آثار المعاناة او هكذا ظننت؛ نظر الي بعينيه الغائرتين وسألني هل تسكن انت في هذا الشارع؟ اجبته نافيا قائلا انني عدت حديثا من القاهرة بعد اكمال دراستي؛ ابتسم لي ابتسامة تملأها الشفقة. كانت ابتسامة العم يحيى "هكذا بائع العصائر قال لي عندما سالته عن اسم الرجل العجوز" كفيلة لكي تجعلني افهم انني ساواجه صعاباً كثيرة في التأقلم مع الواقع الجديد.
علمت بعد ذلك من البائع ان العم يحيى قد فقد احد اولاده بسبب حادث مروري بينما كان يبيع الادوات المنزلية في الشارع وتم اغلاق القضية وتسجيلها ضد مجهول لان القاتل كان ابن نافذ فعرضت مبالغ على العم يحيى الا انه ابى بيع دم ابنه ويئس من اخذ حقه؛ وابنه الاخر قرر الهجرة بعد ان استكمل دراسته الجامعية بحث عن فرصة عمل في الخارج ضمن الاف من الشباب الذين هاجروا والان هو يعمل هناك؛ اما العم يحيى فقد اكل المرض جسمه ولم يبقى له احد من افراد اسرته سوا ابنته؛ وانتقل للعيش عندها في شارع حدة ونادرا مايأتي هنا لزيارة بيته القديم.
اكملت بعد ذلك الحديث مع البائع واستكملت رحلتي في ارجاء العاصمة حتى الساعة الثانية عشرة ظهرا وبعد ان اشتدت حرارة الشمس قررت العودة للمنزل الذي تركه لي والداي؛ عدتُ بعد ان احتلني اليأس من العثور على عمل.
كانت قد غمرتني كثير من المشاعر بعد رحلتي في ارجاء العاصمة ولانني كنت دائما اخرج مااكبت في صدري بالكتابة قررت الكتابة ولكن للاسف! خذلني قلمي هذه المرة؛ لم أستطع فقد كنتُ بالماضي أكتب اشعاراً عن وطن عاهدتُ نفسي ان ابنيه عن حلم سأعيشه لكن الان احساسي بان الوطن ابتلعته تجارب الحكم الفاشلة وحلمي تبخر افقدني هذا الشعور قدرتي على الكتابة.
اتصلت باحد الاصدقاء ودعاني لبيته ؛ تناولت طعامي الذي اعطتني اياه جارتنا الخالة عائشة صديقة امي القديمة.
الخالة عائشة امرأة طيبة من عدن كان زوجها يعمل لدى الحكومة قبل الوحدة في عدن وتعرض للاقصاء من عمله الذي تعرض له الكثير من الجنوبيين جرت مساومته للتخلي عن مبادئه مقابل توظيفه؛ حاول ان يدافع عن قضيته "القضية الجنوبية" وبعد ذلك تم خطفه وقتله ورميه عند باب المنزل؛ قررت الخالة عائشة الانتقال الى العاصمة لأن عدن تذكرها بما فقدت وهاهي تعمل في احدى المدارس الخاصة.
عدن الارض الطاهرة التي تم استحلالها من قبل جماعات لاتمت بصلة للانسانية؛ اقصوا الناس من اعمالهم واستحلوا دماء الاطفال والنساء ونهبوا الاراضي؛ اتخذوا عدن كغنيمة وتم قتل عدن وهاهي تنزف الى الان.
عندما زرت عدن عام 1996 اي بعد حرب صيف 1994 رأيت من الالم واليأس على وجوه اهلها مايكفي لقتل روح الانسان حتى يعيش بجسدٍ بلا روح .
تحولت عدن بعد تلك الحرب المدمرة لارض قاحلة؛ تفتقر مدينة عدن للبهجة مهما حاول اهلها الفرح والاحتفال بالمناسبات المختلفة الا ان نظراتهم تملأها خيبة السنين والامل المفقود والحزن على ارضهم؛ اما مايثير استغرابي انني في يوم ما وانا امشي في احد شوارع العاصمة رأيتهم يحضرون لاحتفال ما وعندما استفسرت عن ذلك قالوا لي انه احتفال السابع من يوليو يوم النصر على الجنوب؛ دهشت عند سماعي ذلك؛ تم جرح اهل الجنوب والاستخفاف بجراحهم وتم قتل حلمهم الجميل بالوحدة كما انهم لم يقدموا لهم الدواء لتلك الجراح؛ هل كانت عدن محتلة من قبل احدهم حتى يتم تسمية ذلك اليوم بيوم النصر؟ تساءلت في اعماقي ولكنني اجبت بالنفي.
ذهبت لزيارة زياد صديقي القديم تبادلنا الاحاديث سألني زياد عن حياتي في الغربة اراد مني ان احكي له تفاصيل غربتي قلت له ان البعد عن الوطن يتعب القلب فكم هي متعبة موجات الحنين والشوق لهذه الارض. بدأت حديثي منذ ذهابي للاردن عام 1988 لدراسة اللغة العربية ذلك الحلم الذي اردت تحقيقه لرفع مستوى اهمية اللغة العربية؛ لكنني ادركت متأخرا ان اللغة العربية طمست بعد ان اصبحنا مجرد تبع للغرب.
قابلت في الاردن فتاة احببتها كثيرا تدعى نور ولها من اسمها صفات شدتني اليها تلك الابتسامة الملائكية والروح الجميلة تعرفت عليها وتعمقت علاقتنا ولكن كما يقولون علاقات الحب في الجامعة معظمها تكون مجرد عابرة انتهت علاقتنا بعد ان استمرت ثلاث سنوات.
مررت بفترة صعبة وبعد فترة استطعت العودة الى حياتي الطبيعية عادت نور الى الوطن وتزوجت ظلت تصلني اخبارها لفترة ومن ثم انقطعت. احيانا تنتابني نوبات شوق لها وينبض قلبي لذكرها.
وصلني بعدها خبر وفاة والداي بحادث اثناء توجههم للحديدة عدت من الاردن لرؤيتهما لاخر مرة لم استطع العودة لاكمال دراستي فقررتُ المكوث في صنعاء لعدة اشهر علي استعيد حماسي مرة اخرى؛ صنعاء لم تكن جميلة بدونك يازياد. ضحك زياد قائلا مازلت كما أنت "لسانك حلو وتأخذ عقل الشخص بكلمتين".
استكملت حديثي ؛بعد ان تحققت الوحدة عام 1990 فرحتُ لذلك وتأملت خيرا ولكن لم افهم كيف سيتفق النظامان معا؛ كيف سيستطيع الشعبين التعايش.
رد زياد قائلا يانزار لم تكن وحدة بل كانت مؤامرة.
استكملت حديثي؛ تخرجتُ بعد ذلك بعامين وذهبت بعدها للقاهرة لدراسة الماجستير؛ اردتُ الذهاب لبلد كبار الادباء ومثقفي اللغة امثال احمد شوقي ومحمود العقاد استكملت دراسة الماجستير وانهيتها عام 1996 عدتُ الى وطن ولكن لم استطع الاستقرار فيه بسبب مارأيت من اثار الحرب.
عدت بعدها الى القاهرة واكملت الدكتوراة وقررتُ العودة للوطن وبعد صراع مع موجات الحنين المؤلمة والشوق القاتل , ولكن يازياد ما ان عدت حتى انتابني شعور الغربة شعور
انني غريب في وطني عدت ووجدتُ المواطنين يقتلون من اجل قضاياهم فذاك يقتل من اجل مذهب ديني هو مؤمن به تقاتله الدولة بلا سبب وذاك يقتل بسبب ارض اخذت منه وذاك يريد وطناً بلا ظلم وذاك يقتل لانه كافر ولكن رجال الدولة كلٌ يغني على ليلاه؛ اصبحنا دولة الارهاب اما الفقر فقد اصبح يلاصق اسم بلادنا.
صنعاء المدينة الرائعة ذات الهواء المنعش؛ اصبحت مدينة اشباح دمروها مدينة فقدت روحها؛ لم يكتفوا بامتصاص خيراتها بل امتصوا حتى الجمال منها.
عدتُ يازياد الى الحي القديم وجدتُ كل شيء قد تغير؛ تغيرت المباني والشوارع وحتى اوجه الناس؛ لايوجد لنا وطن نعيش من اجله بل وطن نموت من اجله. دمروا اليمن قتلوا حلم الوحدة وحرموا الناس من ممارسة معتقداتهم الدينية وسلبوا من المواطن حق احساسه بالامان؛ ان وطننا يغرق وليس هناك من منقذ.
اشعر يازياد انني ضائع في وطن ليس له ملامح.
خاص بعدن اليوم