صرح تربوي عظيم يتحول الى أطلال تشهد على وطنية رجال تلك الحقبة وعبثية من تبعهم

الثلاثاء 16 يوليو 2013 05:46 صباحاً عدن اليوم/علي محمد زين الجفري

حينما نتطرق إلى تأريخ جذور هذه المدرسة العملاقة لا نعني فقط المبنى ومعالمه التأريخية، أو تلك المساحات الواسعة (الفناء) الذي أصبح أكواماً من الاسمنت المسلح، بل نقصد ايضاً نجاح منهجية التربية والتعليم وطرائقها العلمية، الدينية، الفكرية، الاجتماعية والرياضية. تلك المرحلة برجالها الأشاوس، وتلك المدرسة الرائدة لم تأت من فراغ أو من جهل ثقافي مركب كما هو حاصل في عالمنا اليوم. لقد كان لي شرف السبق أن نبهت قبل حوالي عامين في بحث مقتضب بكلية الزراعة لحج إلى أن التحول الثقافي وما يسمونه بحضارة العصر، والرواسب التأريخية التي شابت الحياة اليمنية عموماً جراء الحروب والصراعات الفكرية التي لا تستند إلى قاعدة علمية أخلاقية بين الأجيال المتعاقبة، جعل تلك التيارات تصب في بحر واحد عمالقته المستحوذون على الأرض واللاهثون وراء الكسب غير المشروع، وعلى حساب هوية الوطن والتأريخ والتراث.

كيف نشأت نواة المدرسة المحسنية بمدرسة (الترقي) لحج؟

بعد الحرب العالمية الأولى وانشطار آثارها المدمرة على الوطن العربي عموماً، اكتسحت الدولة العثمانية البلدان، تلاها في ذلك الاستعمار الفرنسي، الإيطالي والبريطاني، وبعد أن استيقظ العرب من سباتهم العميق تمازجت الأقطار العربية وتساندت في النهوض بحق العرب ولغتهم بعد قيام العهد الفيصلي في الشام عام 1919م.وبالرغم من معاودة الحروب والتدخلات الأجنبية على سلطنة لحج خصوصاً وعلى المنطقة عموماً، إلا أن الرعيل الأول من مؤسسي النهضة العربية في الشام التي تعاون معها رجال عظام لا يغفل التاريخ عن ذكر أسمائهم، استطاعوا أن ينشروا أو يشعلوا جذوة أهداف ومبادئ هذه النهضة بطرق شتى عمت أرجاء الوطن العربي. فالسلطنة اللحجية بحكامها ومشايخها الأفاضل استطاعوا قراءة التاريخ بعقول مفتوحة حينما أنشأوا مدرسة نموذجية علمية محدودة في الحي الشعبي الكائن في منطقة (الحاو) لحج- شرقي المدرسة المحسنية حالياً- إذ تم التعاقد مع مؤسسات تربوية سورية لإمدادها بالمنهج وبأساتذة أكفياء إلى جانب المنهج الديني اللغوي الذي كان يدرس في هذه المدرسة. فمدير المدرسة سوري الأصل، اسمه حسن زكريا، الذي تطابق اسمع مع المصري الذي تولى مهام المدرسة المحسنية لاحقاً.

وكان بين أولئك المدرسين نخبة من علماء لحج وفلسطينيون وأتراك أحرار وجنسيات أخرى، فضلوا البقاء في لحج، فسميت المدرسة بـ(الترقي) أسوة بمثيلتها في سوريا، وكان من بين أولئك الرواد السيد العلامة علوي بن أحمد بن عبدالرحمن السقاف شيخ السادة بمكة عام 1311هـ. كان نمط هذه المدرسة أو شعارها يواكب المنهج المنشود الذي أشاد به الأستاذ خير الدين الزركلي قبيل الحرب العالمية الأولى في نشيده المدرسي القومي (21بيتاً) منها:

قفوا على (تونس) واستمطروا الدمعا

وسائلوا عن بنى (مراكش) الربعا

عسى ترى (عدن) تصغي لكم سمعاً

فتذكر الآل من صنعاء أو نجد

وفي (الحجاز) لنا شعب نحييه

وعهد مجدٍ تولى عن مغانيه

المدرسة المحسنية إبان فترة الأربعينات حتى الستينات

أدركت الاسرة الحاكمة بسلطنة لحج وكذا شيوخها وعلماؤها الأفاضل أن جيوش الاحتلال الفرنسي والبريطاني والتركي تجتاح الشرق الأوسط وتعبث بلغته العربية ومناهجه الدينية وتنهب تراثه الفكري والثقافي ومكتباته العامرة، للقضاء على مقومات الأمم الثلاث: الدين واللغة والتأريخ. من هذا الإدراك والإحساس بالمسؤولية اتخذ ابناء لحج طريق المقاومة السلمية بالحصانة والبناء الحضاري ضمن إطار نهضة العرب الثقافية التي بدأت أجراسها تدق من بلاد الشام، عقب إعلان الأتراك الحرية والدستور عام 1908م، إلا أنه تبين أن الخطة الخفية لهذا الحرية هي تتريك العناصر بالحديد والنار.أما الاستعمار البريطاني في عدن، فقد اهتم بتدريس اللغة الانكليزية على حساب مادتي الدين واللغة العربية، كما سمح للمدارس الأجنبية التبشير بمذاهب الارساليات ونشر الدعارة تحت مظلة الحرية، وفي ضوء هذه المعطيات الأليمة والمنغصات أو المنعطفات الخطيرة، حددت السلطنة وأبناؤها الأخيار أبعاد استراتيجية التربية والتعليم لتشمل ما هو أعم وافضل حينما قررت انضمامها تعليمياً وثقافياً مع توجهات ومنهج جمهورية مصر التربوية التعليمي. وهذه مسألة أو تاريخ يحتاج إلى توثيق متكامل بدأنا من جانبنا في إعداده وكتابته، تحت مسمى (سلطنة لحج العبادل ثقافة وتاريخ) تاريخ شامل ومختصر نسأل الله تعالى العون والمدد، آمين. وقصدنا من هذا العرض التاريخي من باب إيصال الرسالة إلى من يهمهم الحدث الحاضر وقراءة التاريخ الغابر، لعل الذكرى تنفع المؤمنين.

كيف ارتقت المدرسة المحسنية إلى هذا المستوى الرفيع؟

إنشاء المدرسة المحسنية رافقه كثير من الإجراءات والبرمجة والتخطيط بالتعاون مع المنهج المصري القديم، الذي كان يستمد نوره وبرامجه من الأزهر الشريف عندما كان في أوجه، لذا تم دمج الروضة ضمن هيكل المدرسة، لتستوعب الأطفال من سن عامين ونصف وما فوق والمقرر من الكتاب والسُّنة. وما تعانيه مجتمعاتنا اليوم من انحرافات وفساد هو بسبب فقدان هذه الحلقة من حلقات التربية، فالعالم الغربي ايضاً يعاني نفس المشكلة.وهناك مزايا اخرى كثيرة لا نستطيع حصرها هنا، بل سأكتفي بذلك مع الإشادة بمادة الرياضة البدنية السويدية،التي كانت أساسية وملزمة لكل الأعمار حتى مرحلة التخرج.

ومن خلال حضوري واطلاعي على مراجع دينية وعلمية عصرية أثريت هذا الباب وسميته (الرياضة البدنية السويدية علم من علوم الكائنات الحية الذي لا يستغني عنها منهج التربية والتعليم) ولقد أحسنت دولة الإمارات العربية المتحدة صنيعاً حينما أرست مؤخراً قراراً يقضى بجعل مادة الرياضة البدنية مادة أساسية. ويكفينا مرارة حينما نشاهد معظم الناس وهم ينافسون السلاحف في أشكالهم وحركاتهم، وصدق الله العظيم القائل ?{?كلُّ نفس بما كسبت رهينة?}?.

الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين والمدرسة المحسنية

من تأريخ ملك المملكة المتوكلية اليمنية الإمام أحمد أنه زار عدن مرتين عن طريق البر، إحداهما كانت لغرض العلاج، وعند عودته حل ضيفاً على السلطان عبدالكريم فضل. وعند وصوله باب الروضة المجاورة لساحة المدرسة شاهد الحشد الهائل من البشر الذين توافدوا من المدينة ومن القرى المجاورة ليشاركوا فرحة أبنائهم في اليوم المدرسي، وهم يؤدون ألعاباً وأنشطة متنوعة، بما في ذلك الرياضة البدنية على أنغام موسيقى الغرب الاسكتلندية.

ومن ضمن طلبة تلك المرحلة كاتب هذه السطور. إذ كان للجيش اللحجي فرقة موسيقية تتقن نغمات وفنون موسيقى الغرب. كما كنا نشاهد أحياناً فرقاً من الجيش البريطاني العدني والحضرمي تأتي إلى هنا للتدرب على فنون هذه الموسيقى. فعند وصول الإمام أحمد عصراً تسمر في مكانه وراح يستمتع بدهشة واستغراب إلى هذا المشهد الرائع الذي لم يألفه ولا يخطر بباله أن حفلاً بهذه الروعة سيكون في سلطنة لحج. وبعد غروب الشمس حينما ابتدأت الفرق المسرحية تؤدي دورها وفي مقدمتهم أطفال لا تتجاوز اعمارهم ست سنوات، يؤدون أدواراً يعجز عن أدائها طلاب جامعاتنا اليوم، وبعد نقاش واسع دار داخل حرم الروضة طلب الإمام أحمد من السلطان عبدالكريم أن يمده بالمنهج، كتاباً ومدرساً وحواشيهما، على أن يتم تسديد التكاليف المالية.

دونت الخطة، إلا أن التطورات السياسية في الشمال والجنوب حالت دون تحقيق ذلك (معلوماتي لهذه الواقعة كانت محدودة إلا أنه بعد جلوسي مع الشيخ على أحمد مهدي قبل عام في الحوطة تم بلورة هذه المعلومة).

الأراضي الزراعية الموقوف ريعها لصالح المدرسة المحسنية

تشير الدلائل والأرقام المتعاقبة إلى أن السلطان محسن فضل وبعده السلطان عبدالكريم فضل قد وهبا أرضاً زراعية في كل من لحج وأبين تفوق مساحتها ما ذُكر، ليكون ريعها لصالح هذه المؤسسة التربوية لتظل شامخة عملاقة تقاوم الصدأ والفساد والجهل.

كما أوضح لي الأخ الشيخ علي أحمد مهدي العبدلي أنه سلّم أرضاً زراعية بمستنداتها لأحد محافظي لحج (احتفظ باسمه)، إلا أن ما يجرى حالياً من طمس لمعالم وآثار هذه المدرسة، لهو مؤشر على طمس هوية هذه الأرض التي استحوذ عليها أناس يختبئون في ظل المصالح الخاصة، متناسين ذلك اليوم العظيم يوم لا ظلّ إلا ظلُّ العظيم الجبار.

وفي الختام أوجه سؤالي للإخوة في اتحاد الأدباء والكتاب لحج: أين أنتم من هذا الموروث الأدبي، الثقافي، التاريخي، التربوي، الحضاري؟

‏* من ارشيف الايام